إن الذي يحدث في هذه الفترة هو نوع من المواجهة والتناقض بين المراهق ومجتمعه : بينه وبين أسرته، بينه وبين أًدقائه، بينه وبين مدرسته، بينه وبين القوى والقيم والمعايير الثقافية السائدة في المجتمع بشكل عام بل أيضا وقبل كل شيء بينه وبين نفسه . وتتم هذه المواجهة على وجه الأخص في مواقف معينة هي تلك التي تتعلق بالأدوار المتوقع أن يقوم بها في حياته كراشد مستقبلا وهي مواقف يكون فيه المراهق لذلك شديد الحساسية وبالتالي فإنه يصبح من السهل أن تترتب على المواجهة في هذه المواقف الحساسة أزمات بالنسبة للمراهق .
على أننا لا نستطيع أن نفهم طبيعة هذه المواجهة ما لم تحدد أولا الأدوار التي يتوقع المراهق أن يقوم بها في حياته كراشد مستقبلا، ثم موقف الثقافة منه في هذه المرحلة.
ويمكن تحديد هذه الأدوار فيما يلي :
1- الاستقلال الذاتي
يدخل كل من البنت والولد مرحلة المراهقة وهما في حالة اعتماد على أبويهما طول مدة الطفولة . إلا أن هذه العلاقة ليست هي المميز للشخص الراشد، والمراهق يتعجل الوصول إلى هذه المرحلة أي مرحلة الرشد، وبالتالي فإنه يتعجل الاستقلال، والاستقلال أمر طبيعي إذ أن المراهق سوف لا يصبح راشدا بمعنى الكلمة إذا كان أبواه هما اللذان يقرران له كل شيء ويتصرفان في شئونه دون رأيه أو مشورته . وعلى ذلك تصبح مرحلة المراهقة مرحلة حساسة من هذه الناحية . كيف يتخلص المراهق من السلطة الأبوية أو غيرها من السلطات التي تمارس عليه ضغطا أو حتى مجرد اعتراف وهو الذي وصل إلى درجة من النضج الجسمي والعقلي ما يمكنه معرفة مصلحته الشخصية ؟ على الأقل هذا هو شعوره .
2- تكوين علاقات سوية بجماعة الرفاق
ويدخل في هذا الإطار علاقات المراهق بأصدقائه وبجماعة الرفاق وبزملائه في الدراسة أو بغيرهم ممن يتصل بهم في حياته بشكل عام خارج أعضاء السلطة في المنزل أو في المدرسة . وتلعب هذه العلاقات دورها في أزمات المراهق من حيث ما يمكن أن يقوم بينه وبين الآخرين من الزملاء مثلا، من خلافات على التعاون أو الانقياد أو الزعامة، أو غير ذلك من أشكال العلاقات التي قد لا ترضى ذاتية المراهق ورغبته في الشعور بالتفرد . كيف يتخلص المراهق من الاعتماد الكلي أو الخضوع التام لفكرة الجماعة عنه، حيث أنه لم يعد الآن صغيرا كما كان ؟ كيف يمكنه أن يحتفظ بعلاقاته بهم دون تسلط أو إنزواء ؟ هذه هي بعض الأسئلة التي تعبر عن المواجهة بين المراهق وبين أعضاء مجتمعه من الرفاق والتي قد يترتب عليها الكثير من الأزمات النفسية والاضطراب في علاقاته وسلوكه الاجتماعي وهذا أمر طبيعي بالنسبة لشخص ما زال في مرحلة انتقال بين الطفولة والرشد، لم يتدرب بعد على المهارات الاجتماعية التي يمكن أن تقيه من هذه الأزمات .
3- الاستقلال الاقتصادي واختيار المهنة
إن الشخص لا يكون راشدا بمعنى الكلمة ما لم يكن قادرا على كسب عيشه بنفسه وهذا هو ما يصبو إليه المراهق بصبر نافذ فهل يبدأ من الآن أن يكمل تعليمه ؟ ولأي مهنة يعد نفسه ؟ ألما يميل هو إليه أم لما قد يجبره عليه أبواه ؟ وهل تستمر البنت في التعليم أن تقعد في المنزل ؟ وإذا تعلمت فهل تتعلم تعليما خاصا أم لا فرق بينها وبين الولد ؟ كل هذه وأمثالها مواقف يواجه فيها المراهق مجتمعه ( المنزل بشكل خاص ) ويترتب على ذلك الكثير من الأزمات التي قد يكون لها تأثير كبير في نموه في هذه الفترة الحرجة .
إن اختيار المهنة والإعداد لها تعتبر نقطة تحول كبيرة في مجتمعاتنا المعاصرة ومن هنا تأتي أهمية المواجهة في هذه المواقف التي تتصل بالاستقلال الاقتصادي.
4- تحديد الدور الجنسي
لقد سبق للطفل أن حدود دوره الجنسي في مرحلة الطفولة المبكرة فاستطاع أن يفرق بين الذكر والأنثى واستطاع كذلك أن يتعرف على ما يتوقعه المجتمع من سلوك الأطفال الذكور وسلوك الأطفال الإناث وربما كان التأكيد هنا على صفتين أساسيتين هما العدوانية في مقابل الاتكالية، ففي حين لا يقبل من الطفل الذكر أن يكون اتكاليا ضعيفا قد يقبل ذلك من الطفل الأنثى وبالعكس في حين لا يقبل منها أن تكون عدوانية قوية قد يؤكد ذلك بالنسبة للولد .
على أن الصورة بالنسبة للمراهق لا تتوقف عند هذه التفرقة البسيطة بل تضاف إليها عدة ملامح هامة تحدد ما يجب أن يكون عليه كل من الرجل والمرأة في مجتمع الراشدين، ففي تصور المراهق أن الثقافة تتوقع من الرجل أن يكون أميل إلى السيطرة أكثر عدوانية أقدر على المبادأة أشد اهتماما بالتحصيل وذلك في الوقت الذي يتوقع فيه من المرأة أن تكون أميل إلى التنازل أو الإذعان أكثر عاطفية أشد حنوا أكثر إظهارا للرعاية .
وفي الوقت الذي كان الطفل فيه قبل مرحلة المراهقة يركز ميوله وعواطفه نحو الأطفال من نفس الجنس نجد أنه عند المراهقة وخاصة قرب نهايتها يبدأ الجنس الآخر يحتل مكانا هاما في حياته العاطفية ذلك أنه خلال هذه المرحلة يستعد لاختيار شريك حياته من الجنس الآخر ولا شك أن التغيرات الجسمية التي تحدث في بداية مرحلة المراهقة يكون لها تأثير كبير في استثارة هذه الميول الجديدة، ولا يمكن أن تخلو هوية الدور الجنسي الناضج من تقبل الفرد لذاته باعتباره شريكا ممكنا في علاقة جنسية حميمة .
وتعمل هذه التغيرات الجسمية على تحديد الدور الجنسي ليس من حيث ما يتوقع بالنسبة للراشد من سمات سلوكية فحسب . بل من حيث ما يتوقع أن يكون عليه أيضا من حيث الصورة الجسمية، ولقد دلت الأبحاث على أن صورة الجسم عند الفرد في مرحلة المراهقة المبكرة هي نفس الصورة التي يظل يحتفظ بها الشخص في مرحلة الرشد، حتى لو تغير شكل الجسم ، فقد أتضح أن الشخص يميل إلى أن يحتفظ بصورة جسمه التي ظهرت له أثناء المراهقة.
وإذن فبنهاية مرحلة المراهقة تتوقع الثقافة من الفرد أن يكون رجلا أو امرأة بالمعايير التي تتبناها سواء من الناحية الجسمية أو من الناحية السلوكية .
والمراهق في عجلة من أمره سواء من حيث الوظائف التي يعد نفسه لأدائها في مرحلة الرشد أو من حيث المظهر العام الذي سيكون عليه، أما الثقافة التقليدية فموقعها محدد من هذه الأمور جميعا مما قد يتعارض أو يتوافق مع حاجات المراهق الملحة . وعلى ذلك إذا لم يستطع المراهق أن يتصور إمكانية تحقيق توافق ما بين حاجاته العاجلة وبين توقعات المجتمع منه، فسوف يقع في أزمات تختلف حدة أو خفة تبعا للثقافة الفرعية التي ينتمي إليها .
5- تبني إطار خلقي
إن من خصائص النمو للمراهق هي قدرته على إدراك المجردات وبالتالي على التفكير المجرد ولكن في الوقت الذي يشعر فيه المراهق أنه يستطيع أن يفكر " كالكبير " فإن الموقف التقليدي للثقافة التي يعيش فيها يؤكد أنه لا زال صغيرا يؤكد له أن المرحلة التي يمر بها ما هي إلا امتداد لطفولته بدلا من أن يعتبرها إعدادا للمرحلة القادمة . وكنوع من الثورة على هذا الموقف وتأكيدا لنمو قدراته العقلية الجديدة فقد يبدأ المراهق يشك ويستجوب وأحيانا يستنكر جميع الأوامر والنواهي والحقائق التي كان يتلقاها ويلقنها عندما كان صغيرا يبدأ يناقش الأمور التي كان يسلم بها تسليما كالدين والنظم الاجتماعية والمعايير الخلقية والتقاليد والعادات وكل ما يحيط به من قضايا فكرية . بل قد يصل الأمر بالمراهق إلى أبعد من ذلك في مواجهة هذه الأمور المجردة . فقد يصل إلى الحد الذي يبدأ عنده يتساءل عن ماهية الحياة وقيمتها عن المثل الأعلى الذي يمكن أن يقتدي به وباختصار فإنه يكون في حاجة إلى فلسفة عامة للحياة، تقوده عبر كل هذه المشاكل والمواجهات .
الخلاصة إذن أن المراهق بتقدمه نحو نهاية هذه المرحلة يجد أن الأسرة والجيرة، والمدرسين والأصدقاء والجماعة المرجعية بل والأمة يكون لديهم توقعات معينة من الفرد في مثل هذه السن .
فمن المتوقع أنه، بعد قليل سيعمل ويتزوج ويكون أسرة ويقوم بالخدمة العسكرية الإجبارية ويصوت في الانتخابات ويؤدي واجباته والتزماته كفرد " راشد " في المجتمع بشكل عام . وعلى ذلك يجد المراهق نفسه أمام العديد من الأسئلة التي تتعلق بهذه الأدوار ما هو نوع العمل الذي يتعين عليه القيام به ؟ متى يمكنه أن يقدم على الزواج ؟ وما هي المواصفات التي يرتضيها للقرين الذي سوف يشاركه حياته ؟ ما هي أيديولوجيته السياسية ؟ ما هي القيم التي يجب عليه أن يتمثلها ؟ ما هو تخطيطه لمستقبله بشكل عام ؟ إلى آخر ذلك من العديد من الأسئلة التي يجد المراهق نفسه ـ وخاصة قرب نهاية المرحلة ـ في حاجة شديدة للإجابة عليها بشكل ثابت مستقر .
إن بعض هذه الأسئلة قد تخطر على بال الفرد أو قد يتعرض لها في مراحل سابقة، ولكن ذلك قد يحدث بشكل جزئي أما في هذه المرحلة فإن المراهق بحكم خصائص نموه المعرفي والاجتماعي الانفعالي لا يفكر في هذه الأمور بشكل جزئي فهو لا يرتاح الآن لمثل هذا النوع من التفكير إنه يريد أن يحدث تكاملا بين هذه الأدوار جميعا بحيث يخرج من هذا كله بمفهوم عن ذاته بشكل عام مفهوم يرضى عنه هو كما ترضى به الجماعة المرجعية ويواجه أيضا القيم السائدة في الثقافة التي يعيش فيها . إن خصائص النمو العقلي للمراهق، يكون لها تأثير كبيرة في هذا لا مجال فالمراهق أولا لم يعد يرضى بما كان يلقنه وهو صغير وعلى ذلك فما كان يرضاه لنفسه قديما، لم يعد يرضى به الآن لقد أصبح الآن يشك في الحكمة من التسليم بأمور كثيرة وهو ثانيا يستخدم قدراته العقلية الجديدة على التفكير المجرد في تجاوز المواقف الجزئية إلى المعاني الأكثر عمومية وعلى ذلك فإنه بعد أن كان يفكر في حالاته النفسية بشكل جزئي قد أصبح الآن يستطيع أن يفكر في ذاته ككل بل أكثر من ذلك فإنه لا ينعكس على نفسه في المواقف التي تهمه فحسب وإنما يتخطى ذلك ليأخذ في الاعتبار أيضا " الأنا " و " الآخر " إنه يفكر فيما يمكن أن يرضي أو لا يرضي الآخرين كما يفكر فيما يرضيه هو أو لا يرضيه .
وقد يتعدى موقف المراهق مستوى الاهتمام إلى مستوى القلق فالفرد في هذه المرحلة بالذات يكون أشد حساسية نحو ذاته ـ كما سبق أو أوضحنا ـ من أي مرحلة أخرى ففي هذه المرحلة يتعرض المراهق لتحولات سريعة وخطيرة ومتلاحقة بل وغالبا ما تكون هذه التحولات فجائية ولا شك أن المشاعر والانفعالات والأفكار التي يمكن أن تثيرها هذه التحولات تكون غريبة على المراهق ومعنى ذلك أنه ينعكس على نفسه ويكثر من التأمل الباطني ويصبح أكثر وعيا بذاته وأشد قلقا عليها، وليس فقط أكثر انشغالا بها ـ إنه يجد نفسه وقد أصبح فجأة شخصا جديدا، كيف حدث هذا إنه لا يجد لذلك تفسيرا كيف يتحكم فيما يحدث إنه لا يستطيع وباختصار فإنه يتحول بين شخص يعرفه ويألفه ويتوافق معه ويمكنه السيطرة عليه، إلى شخص غريب عليه يثير حيرته وشكوكه ولا يخضع لسيطرته .
وفي هذا الخضم من الاضطرابات في النواحي الجسمية والعقلية والانفعالية يتخذ القلق على الذاتية أبعادا متعددة ما هي صورتي عند الآخرين ؟ كيف يحكم الناس علي ؟ هل أصبحت كبيرا بالفعل ؟ هل أتمتع بصفة الرجولة ( أو الأنوثة ) ؟ هل أنا جذاب بالنسبة للجنس الآخر ؟ ماذا سيكون عليه مستقبلي ؟ ولا شك أن كل هذه الأسئلة تتضمن حاجة المراهق الملحة ليس فقط إلى معرفة ما هو عليه بالفعل بل أيضا معرفة الصورة التي عليه أن يسعى للحصول عليها بالنسبة لذاته، حتى يشبع الحاجات ويرضي التوقعات والآمال المعقودة عليه . كل هذا إن كان يعني شيئا فهو يعني أن الهم الأول للمراهق في هذه المرحلة هو ذاتيته أو هويته .