يرجع تفسير ظاهرة التسرب من التعليم إلى إسنادها لقلة وعي الآباء بقيمة التعليم ويستند أنصار هذا الرأي في تبريره إلى قرينة مستمدة من انخفاض مستوى تعليم الآباء أنفسهم. ويفترض الرأي المشار إليه أن ارتفاع نسبة الأمية بين الآباء تعتبر قرينة على اتجاهاتهم السلبية نحو تعليم أبنائهم، وقد يبدو هذا التبرير منطقيا، وذلك إذا ما نظرنا إلى الظاهرة نظرة مجردة وبعيدة عن إطار الظروف والواقع الاجتماعي المحيط بهذه الفئة الاجتماعية، غير أن التحليل- في رأينا- يجب أن يذهب إلى أبعد وأعمق من ذلك ، فلا يكتفي بمثل هذه القرينة، ونرى أن هناك أمورا هامة تدعو للتأمل، منها:
1- الالتحاق بالتعليم:
تفصح نتائج بحثنا عن أن الغالبية العظمي من الإباء قد رغبوا في تعليم أبنائهم، وألحقوهم بالتعليم بالفعل حوالي (80%) من العينة، ومفاد ذلك أن هناك دواعي تالية للالتحاق ، أسهمت في تسرب الأطفال وتتمثل في الخبرات المستفادة.
2- الخبرات المستفادة:
سبق أن أشرنا إلى أن اتجاهات الشخص واهتماماته تتشكل وتتأثر بخبراته. وليس خافيا أن خبرات الكثيرين من الفئات الدنيا في مجال التعليم تشوبها سلبيات كثيرة تؤثر في أداء الأبناء وفي اتجاهات الأبناء وأسرهم نحو العملية التعليمية . وقد سجلت بحوث عديدة أوجه النقص الخطيرة في المدارس الكائنة في الريف وفي المناطق الشعبية الحضرية . فيشوب هذه المدارس نقص في المباني، وفي التجهيزات، وسلبيات في العلمية التعليمية والتربوية . وقد سعى بحثنا إلى تعرف خبرات الأطفال في فترة التعليم قبل تسربهم وانخراطهم في سوق العمل. فتناولت دراسة الحالة التعمق في بحث خبرات ثمانية عشر طفلا وأسرهم في التعليم، وسعت إلى تعرف الأسباب التي دعت الطفل إلى التسرب. وقد أبدى البعض أكثر من سبب، ونرى أن تذكر تكرارات الأسباب التي أبديت لمجرد الاستدلال على كراهية المدرسة (6 حالات )بسبب الضرب بسبب الفشل وعدم الرغبة في التعليم (7 حالات ) عدم الالتحاق أصلا ( حالتان ) المدرسة نصحت بترك التعليم ( حالة ) سبب اقتصادي ( حالة ) لتعلم صنعة ( حالة ).
وقد أظهرت دراسة بعض الحالات أموراً نراها جديرة بالاهتمام في إطار التخطيط ووضع سياسة التعليم، ولذا نرى التنويه عنها بقدر من التفصيل .
- ذكر تسرب من الصف الأول الابتدائي أنه كره المدرسة لأن المدرس كان يضربه بالمسطرة على يديه بشدة، كما أنه كره تقييد حريته فهو يريد أن يترك على سجيته .
- ويفيد والد طفل يعمل في ورشه خراطيم (( بميت نما )) أن ابنه المدرسة أو ترك الدراسة في الصف الخامس، وهو لا يجيد القراءة أو الكتابة وقد حاول مساعدته بدروس خصوصية، وكان يعطى المدرس محاصيل زراعية مقابل الدروس، ولم يتحسن الحال .
- وتتكرر الشكوى من سوء المعاملة في المدرسة .ومن عدم اجتذابها للتلميذ، ومن سوء محصلة العملية التعليمية . فيذكر طفلان أنهما رسبا في الصف الخامس الابتدائي و أنهما لا يجيدان القراءة والكتابة.
- الشكوى ذاتها يرددها طفل ترك التعليم في السنة السادسة .
- ويروى طفل وصل للسنة الأولى الإعدادية أنه كره المدرسة؛ لأن مدرس اللغة الإنجليزية كان يضربه لعدم تمكنه من القراءة.
- ويذكر طفل أنه رسب ثلاث مرات في الصف الأول الإعدادي ، وذلك رغم الدروس الخصوصية ، وهو الآن يقرأ بصعوبة .
- وتنصح المدرسة والدة طفل يبلغ السابعة- بعد قضاء عام واحد في الدراسة بأن تلحقة بأي عمل حرفي. ويجدر التساؤل عن الأسباب التي دعت بعض المبحوثين إلى التسرب من مرحلة الدراسة الإعدادية ، وذلك بعد اجتيازهم لمرحلة الدراسة الابتدائية. وبتحليل الأسباب التي دعت للتسرب كانت على اللوحة التالي ( وقد أبدى بعضهم أكثر من سبب) الفشل في التعليم (68.8) الرغبة في الإنفاق على ألذات (60.4) مساعدة الأسرة (45.8%) لتعلم صنعة (39.6%) أسباب أخرى (2.1) .
3- الفجوة المدرسة وبيئة الطفل:
ولا تعتبر الخبرات التي أشرنا إليها غريبة أو غير متوقعة فهي دروس مستفادة ومتكررة في كثير من الدول النامية، ويشير إلى هذه الحقيقة تقرير نشرته منظمة اليونسكو عن نذوة علمية حول تخطيط التعليم من أجل الحد من مظاهر عدم المساواة ، وجاء في التقرير أنه متى اختلف المناخ الثقافي في المدرسة عن مناخ بيئة الطفل. دون أن تحاول المدرسة تقريب هذه الفجوة فإن إخفاق الطفل يكون مؤكدا، ويضيف التقرير أن المنهج الذي لا يعيد باحتياجات الطفل لا يثير اهتمامه.
4- أعباء نفقات التعليم:
وقد أفادت بعض الأمهات (42%) من 72 حالة من إجمالي عينة الأسر التي تسرب أبناؤها من التعليم أن نفقات التعليم كانت تمثل عبئا كثيراً على الأسر. وكانت أوجه الإنفاق عبئاً على هذه الأسر، حسب الترتيب التالي :
- الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية .
- الكتب والكراريس والأدوات المدرسية .
- المصاريف المدرسية .
- الملابس .
5- عائد التعليم :
وإذا ما سلمنا من حيث المبدأ بضرورة الاعتداد بخبرات الأسر والأبناء وبالواقع المعاش فيتعين أن نتساءل عن عائد نظام التعليم المتاح لهذه الفئات الدنيا. وقد سبق أن اشرنا تفصيلا إلى رؤية هذه الفئات للحياة ولطموحاتهم التي تنجيه إلى مواجهة متطلبات الحياة بأسلوب عملي، يمثل العائد الملموس، وهنا تجدر الإشارة إلى الاعتبارات الآتية.
- أن التعليم الأبتدائى لا يعد التلميذ لظروف ولمتطلبات البيئة التي يعيش فيها الطفل، ولذلك حسب ما يشير إليه تقرير منظمة اليونسكو سالفة الذكر، فإن الأسرة تميل إلى عدم استكمال الطفل للدراسة الابتدائية ؛ خاصة إذا كانت ظروف تلك الأسرة لا تسمح بمواصلة التعليم في مراحلة التالية، ويدعم هذا الاتجاه بطبيعة الحال قصور العملية التعليمية .
- ويضاف إلى ما تقدم اعتبار عملي هو أن التحاق الطفل بالعمل كبديل لتعليم فشل فيه يحقق له المعرفة والخبرة العملية اللتين تسهمان في تشكيل مستقبله ، وهو السبب الثاني الذي ذكره الأطفال لانخراطهم في سوق العمل، ويلاحظ أن عدد كبيراً من الأطفال المتسربين من التعليم لا يجدون أعمال يلتحقون بها، فقد أفاد بعض الأهالي في دراسة الحالة أن هؤلاء الأطفال لا يجدون بديلا سوى اللعب في الشارع وقد أشارت دراسة سابقة إلى نسبة الأطفال المتسربين الذين لم يلتحقوا بعمل بعد التسرب بلغت (51.6%) من العينة الكلية .
- ويذكر أصحاب الورش أنهم يفضلون تشغيل الأطفال الصغار إذ إن يتيح لهم التدريب على الأعمال المطلوبة . ويضيف البعض أنهم يفضلونهم على خريجي المدارس الصناعية ، وهناك عامل إضافي يحبذ هذا الاختيار، يتمثل في انخفاض أجور الصغار .
- ويرتبط بالاعتبار السابق، ما شاهدناه في إحدى الزيارات الميدانية لمركز تدريب لإعداد العمال المهرة في صناعة النسيج؛ إذ تبين أنه رغم اتساع مركز التدريب ( أعداد كبيرة من حملة الشهادة الإعدادية إلا أن عدد الملتحقين كان ضئيلا ). وبالسؤال عن السبب، أفاد المسئول عن المركز بعدم وجود فرص عمل للخرجين، بالقطاع العام .وأضاف أن القطاع الخاص لا يقبل على تشغيل الخريجين ويفضل عليهم الصبية لانخفاض أجورهم، فيضطر الخريجون في كثير من الأحيان إلى الاشتغال في الأعمال غير الحرفية. ومن نتائج تفاعل هذه العوامل تشكل اتجاهات أولياء أمور الأطفال نحو التعليم وعائده . ومع ذلك وإذا ما سلمنا جدلا لمجرد الحوار النظري بما يناسبه البعض لهذه الفئة من قلة الوعي بقيمة التعليم، وإذا ما سلمناه بأن هذا النقص في الوعي يعتبر عاملا مساعدا بينهم في إخفاق الأطفال لذلك يمكنا القول بأن هذا العامل المساعد المفترض يكون مستغرقا، وذلك بالمعني الذي سبق شرحه. وبعبارة أخري فإن مساوئ النظام التعليمي وضآلة عائده بالنسبة لهذه الفئة يمثلان العامل الأقوى الذي يستغرق ما عداه من عوامل وسيطة أو مساعدة في تشكيل اتجاهات الأهل ورد فعلهم تجاه النظام التعليمي، ثم في تفضيلهم إلحاق الابن بعمل يتعلم حرفة.
وقد أتضح أن للأسرة تأثير كبيرا في التحصيل الدراسي للطفل، ويعتمد ذلك علي كل من المستوي التعليمي للوالدين ودخلهما، ونوع الشخصية التي يتمتع بها الوالدان وطموحهما فيما يتعلق بمستقبل أبنائهما.
هذا بالإضافة إلي أن الجو النفسي للطفل داخل المدرسة له تأثير كبير علي علاقة الطفل بالمدرسة، وهذا ما يتضح من خلال قيام الولايات المتحدة الأمريكية بولاية أيوا سنة 1989 من وضع قوانين صارمة؛ لتحد من إساءة موظفي المدارس والمدرسين للأطفال مما يجعلهم يتسربون من التعليم.