تتباين آراء التربويين ما بين مؤيد ومعارض حول أهمية اللعب وضرورته للطفل، غير أن هذه الأهمية تتضح لنا بشكل أكبر عند تتبع سلوكيات سيد المرسلين المربي الأمين سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام عند إعطائه أهمية كبرى للعب على حساب العبادات وذلك من خلال ما رواه عبد الله بن شداد؛ حيث قال: "بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، إذ جاءه الحسين، فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود بالناس، حتى ظنوا أنه قد حدث أمر، فلما قضى صلاته، قالوا: قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر. فقال: إن ابني قد ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته". وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لاعبوا أبناءكم سبعًا، وصاحبوهم سبعًا، وعلموهم سبعًا، ثم اتركوا الحبل على الغارب".
وقد ورد ذكر اللعب في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، أبرزها ما ذُكر على لسان أخوة يوسف - عليه السلام - لأبيهم عندما أضمروا شرًا ليوسف "أرسه معنا غدًا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون" (يوسف: 12)، وقال - تعالى- مبينًا طبيعة الإنسان في الدنيا: "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (العنكبوت: 64). وجارت كلمة "لهو" في مواضع عديدة، أبرزها قوله تعالى: اعلما إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد" (الحديد: 20)، وقد ساعدت الدراسات التربوية والنفسية أيضًا في توضيح أهمية اللعب في حياة الطفل، عندما بينت أن جزءًا كبيرًا من القدرة العقلية والإبداعية للطفل يتم تطويره خلال مرحلة الطفولة المبكرة من خلال اللعب، لذا أصبح محورًا أساسيًا في العملية التعليمية في مرحلة رياض الأطفال. وقد أكد بياجيه على دور اللعب في عملية تمثل الطفل للخبرة وكيفية دمجها في خطط الطفل العقلية العامة المتعلقة بالعالم الذي يحيط به. وهذا النوع من الخبرة هو الذي يتوافق به الطفل مع نفسه، ويتوافق به أيضًا مع العالم حوله.
وللعب فوائد جمة في تنمية الجانب الاجتماعي من شخصية الطفل؛ حيث يساعد على بناء علاقات اجتماعية جيدة مع الآخرين عن طريق التعاون وتفهم أسلوب الأخذ والعطاء، وتبني الدور والالتزام بقوانين الألعاب مع المجموعة، وبدون هذا يصبح الطفل أنانيًا، مسيطرًا، ضيق الأفق، غير محبوب، غير منفتح على الآخرين، بل ويصبح متمركزًا حول ذاته.
الطفل واللعب:
احتل اللعب مكانة مهمة في آراء الفلاسفة والكتاب والباحثين من علماء النفس والتربية منذ أقدم العصور، فقد أوصى الإمام الغزالي بأن يؤذن للطفل أن يلعب لعبًا جميلاً. فإن منع الطفل من اللعب، فإن إرهاقه بالتعليم يميت قلبه، ويبطل ذكاءه، وينغص عليه العيش، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه. كما أكدت الدراسات التربوية والنفسية أن اللعب كنشاط مميز لحياة الأطفال يعتبر مدخلاً وظيفيًا لعام الطفولة ووسطًا تربويًا لتشكيل شخصية الفرد في سنوات طفولته، كما أن احتياجات الأطفال للعب بأنواعه المختلفة وأدواته وأساليبه هي احتياجات نمائية تتطور مع تطور عملية النمو لدى الأطفال.\وكما أن اللعب ضروري لنمو العضلات لاكتساب المهارات الحركية التي يحتاجها الطفل في تنقلاته، بالإضافة إلى أن اللعب يطوّر القدرات الجسمية والعقلية والانفعالية لديه، ويساعد على تنشئته اجتماعيًا واتزانه عاطفيًا وانفعاليًا، ويساعد اللعب أيضًا على تطور النمو اللغوي لدى الأطفال من خلال تبادل الآراء والحديث المتواصل الذي ينشأ بسبب التفاعل المشترك بين الأطفال المشاركين في اللعب، وهو يمنح الطفل فرصًا ثرية ومواقف حياتية طبيعية تعمل كنماذج مثلى في تكوين الشخصية السوية من خلال العلاقات المتبادلة والمشاركة والتعاون والمناقشة والتشاور والحوار مع الآخرين، والاشتراك في اتخاذ القرارات الجماعية، وتقبل رأي الغير واحترامه، حتى إن كان مغايرًا للآراء الشخصية.
وهكذا نجد أن للعب قيمة اجتماعية وانفعالية ولغوية وحركية مؤثرة في شخصية الطفل خلال مراحل النمو المختلفة، والتي تختلف باختلاف مراحل نمو اللعب عند الطفل والتي تتمثل في المراحل التالية:
أولاً: مرحلة اللعب العشوائي:
وهي تتكون خلال السنة الأولى من مولد الطفل، ومن أبرز سماتها العامة تحريك الأطراف والجسم، وتنقسم هذه المرحلة إلى ثلاث مراحل فرعية، هي:
- الأولى: وتمتد حتى نهاية الشهر الرابع وتتميز هذه المرحلة بقدرة الطفل على اللعب من خلال تحريك أطرافه، واللعب العشوائي الذاتي من خلال استخدام الطفل لحواسه وأطراف جسمه. وفي هذه المرحلة الفعلية يكون الطفل قادرًا على الإمساك بالدمي بعد نمو أصابعه، فاللعب يصبح أقل عشوائية بسبب بدء سيطرة الطفل على أطرافه. وهذه المرحلة هي بداية الاستمتاع بانقلاب الطفل على نفسه، والاستلقاء، وتحريك أطرافه عشوائيًا، ومسك أصابع رجليه، وتقريبهما إلى فمه، والاستمتاع بحركات السرير والاهتزاز والأرجحة.
- الثانية: وتمتد حتى نهاية الشهر الثامن، وتتميز بظهور بعض الألعاب الحركية البسيطة. والطفل في هذه المرحلة يتمكن من اللعب بأصابع يديه ورجليه، ويهز رأسه، ويحاول الوقوف، وإن كان لعبه أكثر تنظيمًا.
- الثالثة: وتمتد حتى نهاية العام الأول، وأهم ما يميز هذه المرحلة: الوقوف البسيط، والحركات المفاجئة، الاستناد إلى أشياء أخرى مساعدة، الحبو، التدحرج، والمداعبة، ودغدغة وجه الأم، ولعبة الاختفاء والظهور.
وأهم ما يميز اللعب في السنة الأولى من عمر الطفل والاعتماد على حركة الأطراف والجسم، الحرية، العشوائية، انعدام الضوابط، محدودية علاقة اللعب بالبيئة المحلية، الاستمتاع، لعب غير هادف، لعب ذاتي المصدر والهدف، كل ما حول الطفل جزء من محيط اللعب في نظره، وحتى نهاية العام الأول يبقى الطفل غير قادر على السيطرة على أطرافه وجسمه بشكل مناسب، فردي النزعة، ذا تفكير حسي حركي.
ثانيًا: مرحلة التنقل:
وتمتد هذه المرحلة حتى نهاية العام الثاني من عمر الطفل. وأهم ما يميز اللعب في هذه المرحلة هو:
- تزداد أهداف اللعب تحديدًا ووضوحًا.
- يزداد اللعب تنظيمًا وتنويعًا.\يدخل المشي كعنصر مهم جدًا؛ لأنه يضع الطفل على عتبة جديدة ونقله جديدة.
- تظهر في اللعب عمليات الاستكشاف والتعرف، وهما من عوامل النمو العقلي المهمة.
- معظم نشاط اللعب يتركز في عملية المشي، وقذف الأشياء، ثم اللحاق بها؛ للإمساك بها.
- لا يزال اللعب في هذه المرحلة يفتقر إلى الاتساق والتناسق بين حركات عضلات اليدين وأصابع الطفل وجسمه والتنسيق بينها وبين قدراته العقلية.
- تظهر عنده الرغبة والميل إلى تقليد الآخرين في حركاتهم وألعابهم، وكأنه يقوم بالدور الذي يقوم به الكبار.
- ما زال اللعب في هذه المرحلة يتميز بأنه ذاتي النزعة والتركيز والأهداف.
- في نهاية العام الثاني تظهر على الطفل علامات التعرف والتفاعل مع ألعابه، ويميل إلى الدمي التي تمثل الإنسان والحيوان، ويميل إلى اللعب بالأشياء الكروية؛ لأنها سهلة التدحرج أمامه، فالطفل في هذه المرحلة يحب اللعب بمفرده بعض الوقت، ولكنه يريد من حين لآخر شخصًا آخر يدحرج إليه الكرة أو يقذفها.
ثالثًا: مرحلة التكوين:
وتمتد حتى نهاية السنة الثالثة والسمة العامة للعب في هذه المرحلة التشكيل والتكوين.
ومن أهم السمات الأخرى:
- يأخذ اللعب بعدًا رمزيًا بعد نقله جديدة تتمثل في إتقان الطفل للغة.
- تظهر حركات لجميع أعضاء الجسم، حركات الإيقاع والتوازن، ونطق الأصوات المختلفة، الصراخ والهمهمة والدندنة.
- النظر في الصور والتمعن فيها: تفحص الصور.
- النظر في المرأة.
- ترتبط اهتمام اللعب عند الأطفال في هذه المرحلة بالنضج والاستعداد، وتتأثر بالجنس والعوامل البيئية.
- تحتل الدمى مساحة كبيرة من اهتمام الأطفال، ويصبح اللعب بها أكثر شيوعًا، ويعمد الأطفال إلى التعامل مع الدمي والتعرف عليها (كاللعب التمثيلي).
- ما زال اللعب تغلب عليه النزعة الذاتية، مع محاولات تقليد الكبار، وهذا يمثل استعداد الطفل لممارسة ألوان اللعب الإياهمي التي تبدأ في سن الثالثة.
- من ألوان اللعب في هذه المرحلة: الألعاب الحركية والبنائية والتركيبية.
- تكون الألعاب في جملتها حس حركية.
- تصبح الأصوات المختلفة من حول الطفل كالصراخ والهمهمة والدندنة جزءًا مهمًا في ألعاب الطفل في هذه المرحلة.
- يبدأ اللعب الإيهامي لدى الطفل؛ وذلك نتيجة تقليده للكبار.
رابعًا: مرحلة التجمع الأولى:
تمتد حتى نهاية السنة الثالثة وبدايات الرابعة، وتسمى هذه المرحلة أيضًا بمرحلة اللعب بوجود الآخرين؛ حيث يعتبر هذا النوع من اللعب تطورًا إذا ما قورن باللعب في المراحل السابقة. وهذه المرحلة هي بداية اللعب الاجتماعي.
وأهم ما يميز اللعب في هذه المرحلة ما يلي:
- يبدأ اللعب ذو الصبغة الجماعية، وإن لم يكتسب السمة الاجتماعية بعد؛ لأن الأطفال يميلون إلى اللعب بوجود أفراد آخرين وليس اللعب متعهم، ويبدأ الطفل في تقديم ألعابه وممتلكاته إلى الآخرين، وإن لم يقصد تركها لهم، ونلاحظ هذا في انتزاعها منهم مرة أخرى.
- من خلال أسلوب التشجيع والتعزيز، يزيد الأطفال من ألعابهم الجماعية، ويلاحظ على الطفل أنه لا يحب أن يلعب مع الأطفال، وفي الوقت نفسه لا يحب أن يلعب منفردًا بعيدًا عنهم، ويطلق على هذا النوع من اللعب (اللعب المتوازي).
- تظهر في هذه المرحلة - بصورة واضحة - بعض ضوابط اللعب، وتبدأ ألعاب القوى والمهارات البسيطة: كالقفز، والجري وقذف الكرة، ولكن بصورة فردية وبدون تنافس.
- في نهاية هذه المرحلة يبدأ اللعب التعاوني بما لا يزيد على ثلاثة أطفال.
- يستمر في هذه المرحلة اللعب الإيهامي والتخيلي، وتمثيل الأدوات التمثيلية التي تنطوي على كثير من الخيال.
- ترتبط ألعاب الأطفال في هذه المرحلة بما هو موجود في المجال الإداركي الحسي المباشر لهم، ولكنهم مع ذلك يستخدمون في هذا المجال استخدامًا إيهاميًا.
خامسًا: مرحلة التجمع الثاني:
وتستغرق هذه المرحلة السنة الخامسة من عمر الطفل. وأهم سمات اللعب في هذه المرحلة كالتالي:
- يتطور اللعب بحضور أطفال وأشخاص آخرين، ولكن بدون مشاركة حقيقية من الأطراف الأخرى.
- يبدأ لعب الطفل بالميل نحو الواقع، ويبدأ تكراره اللعب التخيلي والتظاهري في تقليد الأشياء الوهمية، ويقل تدريجيًا، ويظهر مكانه اللعب الواقعي، فنراه يميل إلى تمثيل الحياة الواقعية (إعادة تمثيل الآخرين والأشياء، والمواقف)، فيكثر من بناء البيوت والدمي والمكعبات والأدوار التقليدية.
- تظهر ميول الطفل واضحة في التفاعل والاندماج والتجمع والتكامل مع الآخرين، ويبدأ اهتمامه بتكوين الجماعة والتقيد بالقوانين والضوابط.
- تظهر في هذه المرحلة حاجة أكيدة إلى التوجيه الواعي؛ حتى لا يتطور اللعب إلى ما لا تحمد عقباه.
- تكثر الألعاب ذات الصبغة التمثيلية والواقعية والتي تكسب الطفل القواعد والمبادئ التي تتصل بالنمو الاجتماعي والوجداني.
إن الطفل في هذه المرحلة يزداد اهتمامه بالألعاب ذات القواعد والقوانين التي تنظم علاقة المجموعة أثناء اللعب.
سادسًا: مرحلة التجمع الثالثة:
هي مرحلة اللعب التعاوني، وتمتد هذه المرحلة حتى سن الثامنة، ويتسم اللعب فيها بالآتي:
- يتخذ أبعادًا جديدة تتفق ونمو الطفل وتطوره.
- يظهر اللعب التعاوني بأساليب كثيرة ومتنوعة، ويتطلب وسائل ووسائط أوسع (لفظية وغير لفظية).
- يتطلب هذا النوع من الألعاب الكثير من الاستعداد والتعلم؛ ليصبح ممكنًا ومقبولاً.
- من أساسيات هذا النوع من اللعب: المشاركة وتبادل الأدوار والتعاون للحد من التنافس والخصومات، وعلى الكبار تنظيم عملية التنافس وضبطها،والحرص على عدم خروج التنافس وضبطها، والحرص على عدم خروج التنافس عن أهدافه التعليمية والتربوية والاجتماعية، مع ضرورة تفضيل أسلوب التنافس الذاتي من خلال اللعب المتوازي والفردي إلى جانب التنافس الاجتماعي.
إن الطفل في هذه المرحلة - بالإضافة إلى السمات السابقة - تتسع لديه دائرة ذمرة الأصدقاء؛ مما يعقد الموقف في هذه الألعاب.
سابعًا: مرحلة اللعب المخطط له:
وتمتد هذه المرحلة إلى ما قبل مرحلة المراهقة، وتمتاز هذه المرحلة بالسمات التالية:
- استمرار تلاشي اللعب الإيهامي والتمثيلي ولعب الدور.
- بداية اللعب المخطط والمنظم الذي يسود هذه المرحلة.
- اللعب الإيهامي - وإن كان في طريقة إلى الزوال - فإنه يؤدي وظيفة نفسية إيجابية تتصل بالإبداع والتعبير. ومن هذه الألعاب، لعب دور الأبطال، قراصنة البحر، الحرامية، الحروب، ونجوم الفن والرياضة.
- ظهور نوع جديد من اللعب يعرف باللعب الإجرائي ومنه: الألعاب الشعبية والألعاب الحرفية، إلى جانب النحت والرسم والشطرنج وغيرها. وهذا النوع من الألعاب يساعد الأطفال على اكتساب المهارات والمعارف وتكوين التفكير المنطقي وتطوره. والنزوع نحو العقلانية في التفكير.
- والألعاب الهادفة والمخطط لها في هذه المرحلة توفر للأطفال فرص النمو العقلي والوجداني والحسي المنظم، وتساعدهم على تنمية مهارات التواصل والتعاون واحترام الحقوق والواجبات واحترام الذات واكتشاف العادات الاجتماعية، التي تساعد الطفل على التكيف السليم، وتساعده على تكوين الأصدقاء والرفقة وتنمية شعور الفرد بالاعتزاز بانتماءه إليهم، وتبرز لديه نزعة التعصب للجنس الواحد في هذه المرحلة.
- أنماط اللعب في هذه المرحلة تتأثر بكثير من العوامل البيئية والوراثية والثقافية وجنس الطفل.
- من الألعاب المفضلة في هذه المرحلة: ألعاب التركيب والبناء المخطط، الجمع والتصنيف، والتحليل والتفسير، الألعاب الرياضية، الرسم، النحت، والغناء والتمثيل.
- مثل هذه الألعاب إذا ما تم تنظيمها وتخطيطها وتوجيهها التوجيه التربوي، فإنها تنطوي على إمكانات ممتازة للنمو المتعدد الجوانب: النمو الحركي الحسي، نمو الذاكرة القدرة على التخيل، الانتباه، التفكير، النمو الاجتماعي والانفعالي والسلوكي والقيمي.
إعداد:
- د. أسامة حسن معاجيني - مدير وحدة التشخيص بمركز المهارات لتنمية القدرات الذهنية والعلاج النفسي التربوي - (جدة - السعودية)