يعتبر علماء اللغة صرخة الميلاد التي يطلقه الطفل بمجرد انتقاله إلى بيئة مختلفة عن بيئته السابقة كأول رد فعل منه يعبر به عن هذه النقلة، أولى مراحل تعلم اللغة لديه. والمعروف أنها تحدث نتيجة لاندفاع الهواء بقوة عبر الحنجرة إلى رئتي الطفل؛ مما يحدث اهتزازًا في الأحبال الصوتية لديه، ومن ثم يبدأ عملية التنفس، ومن بعدها يصبح الصراخ هو وسيلته للتعبير عن معاناته واحتياجاته، والأم تستطيع من خلال خبراتها السابقة أن تتفهم مغزى صراخ صغيرها، وهل هو ناتج عن ألم أم جوع أم بلل. وتتفاوت الصرخات التي يطلقها الطفل في هذه المرحلة من حيث طولها تبعًا للمسبب لها، فصرخات الألم تكون حادة وقصيرة، وصرخات الجوع – هي كما يرى الباحثون أطول الصرخات التي يطلقها الطفل، وتقدر نسبتها بحوالي 35% من نسبة صرخاته. وتستمر هذه المرحلة طول الخمسة أشهر الأولى تقريبًا من عمر الطفل؛ لينتقل بعدها إلى مرحلة أخرى يطلق عليها العلماء مرحلة المناغاة، حيث يبدأ الطفل في إصداره لبعض الأصوات العشوائية متخذًا منها وسيلة للعب والتسلية والمتعة. وعادة ما يبدأ مناغاته بإصدار حروف تلقائية مثل (د، ب، أ، ع، غ، م) وفي النصف الثاني من العام الأول يبدأ في زيادة حرف أو حرفين؛ ليصبح قادرًا على ترديد (بابا، ماما) وهنا يعتقد الأهل أن الطفل بدأ مرحلة الكلام، ويظهرون من السعادة والفرح ما يشجع الطفل، ويعزز هذه الأصوات، ويثبتها لديه، ويدفعه لتثبيتها.

كما لاحظ الباحثون أيضًا أن الطفل في هذه المرحلة يصدر صوتًا قريب الشبه من الحرف (ر) حينما يكون مستلقيًا على ظهره، ويتجمع بعض من لعابه في نهاية حلقه؛ ليبدأ اللعب به محدثًا لمثل هذا الصوت، وبظهور الأسنان لدى الطفل يبدأ في نطق الحروف السنية (س، ش.. الخ).

ثم ينقل الطفل بعد ذلك إلى مرحلة يحاول من خلالها تقليد أصوات المقربين منه، في محاولة منه لإيجاد نوع من الاتصال بهم. وهذا الانتقال لا يحدث فجأة؛ وذلك لتداخل مراحل نمو اللغة، وصعوبة تحديد مواصفات أو نهايات لكل مرحلة. وهذا التقليد يتم بصورة آلية أولاً، فإذا ما عزز من قبل المحيطين، بدأ الطفل في تعديل طريقة أدائه له حتى يأخذ الشكل المقبول. قد يصاحب عملية التقليد بعض الحركات التعبيرية الإيمائية المصاحبة للصوت كمد اليدين عند طلب أخذ أو إعطاء شيء "ما" والوثوب على أطراف الأصابع ورفع اليدين باتجاه الشخص الذي يرغب الطفل في أن يحمله.. وهكذا.. وقد ربط العالم جان بياجيه بين التقليد وذكاء الطفل، واعتبر عملية التقليد امتدادًا لحركات التكيف لدى الطفل، وأسماء (الذكاء الحسحركي)، واعتقد بياجيه أن هذه المرحلة تقع في نهاية السنة الأولى من ميلاد الطفل وبداية السنة الثانية، حيث تتحول عملية التقليد من عملية تلقائية لا إرادية؛ لتصبح عملية إرادية يصاحبها عنصر الفهم والإدراك للمعنى من قبل الطفل.
وتعتبر المراحل السابقة هي المهيأة لدخول الطفل في المرحلة اللغوية، فالطفل لا يصل مرة واحدة إلى استخدام اللغة، بل يمر بعدة مراحل قبل البدء في استخدامها، يكون خلالها قد تمكن من جمع حصيلة من الألفاظ والحركات الإيمائية التي يفهمها، ولكنه غير قادر على التلفظ بها. فالطفل قبل انتهاء عامه الأول، يتفاعل مع تعليمات وأوامر المحيطين به، بواسطة حركات إيمائية وإشارات من العيون والرأس واليدين والجسم، وقد تكون بعض التغيرات التي يمر بها الطفل خلال هذه المرحلة كتعلم المشي مسئولة عن بعض التأخر الذي يحدث في سرعة نمو اللغة لديه، إلا أنه سرعان ما يتدارك هذا التأخر بمجرد اكتسابه لمهارة المشي. ويرى الباحثون أن محصول الطفل من الكلمات التي لا يفهم دلالاتها في هذه المرحلة يفوق بكثير ما يقدر فعليًا على النطق به.

ثم تبدأ مرحلة تركيب الجمل لدى الطفل بعد أن يكتسب حدًا أدنى من المفردات المفهومة المعنى، ويستطيع الطفل في عمر السنتين البدء في تكوين جمل بسيطة من كلمتين، ولا يبدأ في تكوين الجمل المركبة قبل أن تتكون لديه حصيلة من المفردات تسمح له بذلك، والطفل في نهاية السنة الأولى وبداية السنة الثانية قد يتلفظ بكلمة، إلا أنه يعني بها جملة، كأن يقول (ماما) ويعني بها (تعالي يا أمي) أو (انظري يا أمي) كتعبير عن الشكوى من مضايقة أحد الأخوة له... الخ، وبالتدريج ينتقل إلى مرحلة تكوين الجمل الناقصة (2: 3 سنوات) أي غير المفيدة، ولكن يفهم معناها ضمنيًا من المحيطين به، والتي قد تتكون من كلمتين، كأن يقول (بابا شغل) أي (أبي ذهب إلى العمل) أو (ماما موز) أي (أريد يا أمي موزًا).. وهكذا.

وببلوغ الطفل عامه الرابع يصبح قادرًا على تكوين الجمل التامة، حيث يمكنه استخدام جمل مكونة من 4: 6 كلمات، ثم تبدأ قدرة الطفل على استخدام الجمل المركبة تباعًا، ثم إدخال الضمائر وظروف المكان وحروف العطف وحروف الجر... الخ، وتزداد قدرته على فهم الكلام الذي يدور من حوله، وينمو لديه حب الاستطلاع في محاولة لاستكشاف العالم من حوله واكتساب معلومات جديدة وما يصاحب ذلك من أسئلة كثيرة واستفسارات.
وقد لاحظ الباحثون أثناء دراساتهم أن هناك العديد من العوامل المؤثرة في النمو اللغوي لدى الأطفال كالجنس، حيث ثبت أن الإناث أسرع في اكتساب اللغة من الذكور، وذلك حتى عمر 6 سنوات، ثم يبدأ الذكور في التساوي بهم، وقد يفوقونهن، كما ثبت لديهم أن الذكاء يلعب دورًا أيضًا في هذا النمو، وكذلك البيئة المحيطة بالطفل، كلما كان المحيطون بالطفل حريصين على التفاعل معه في هذه المرحلة، كلما أثر ذلك في سرعة اكتسابه للغة، والعكس صحيح. وكلما ارتقى المستوى الاجتماعي للبيئة التي ينشأ بها الطفل، كلما أدى ذلك – بالإضافة لسرعة النمو في لغتهم – إلى الارتقاء بمستوى مفرداتها، والعكس صحيح أيضًا بالنسبة إلى الطبقات الدنيا، كما أن صحة الطفل وسلامة حواسه تلعب دورًا خطيرًا في تطور نمو اللغة لديه.

المصدر:

  • مجلة شمس العدد 16 يوليو 2002
  • إعداد: سوسن رضوان - خبير الطفولة المبكرة – مصر
  • Currently 259/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
89 تصويتات / 3180 مشاهدة
نشرت فى 29 يوليو 2009 بواسطة byotna

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,840,330

تعالَ إلى بيوتنا على فيسبوك